5/28/2008

أنا اليوم مقاتلة في صفوفكم!!!

الغضب بدأ يدور في جسدي. يتفشى ولا قدرة لي على ايقافه. يملك رويدا رويدا على عقلي. هي العواطف تنفجر. الغضب، نعم، الحزن، القهر، حتى الحقد... وربما قليل من الخوف أيضا. لم يعد من مكان للعقل. لم يتركوا له مكان. هل هكذا يعدّون جنودهم للحرب؟

أنا الآن مستعدة لاحارب. لاقاتل. لاقتُل. القضية اصبحت تتعلق بقيمتي كانسان، بوجودي، بحريتي، بحقوقي، بكبريائي... الاشياء حولي لا قيمة لها. حولوني وحشا ينتظر اشارة لينهش فريسته، ليمزقها، ليسكر من دمها وينتشي من ألمها. سأقطعها اربا اربا... لن استعجل... سأمعن النظر في عينيها المرتعبتين. بهدوء، سأسلخ جلدها. ستتألم، ستصرخ... وانا ستبقى هذه الذكرى في مخيلتي. لن تزعجني. سأتفاخر بها امام الجميع. انا قمت بواجبي. انا دافعت عن وجودي، عن حريتي، حرية اليوم وحرية الغد. انا دافعت عن الحاضر وعن المستقبل.

أنا أعرف انهم هم حولوني الى هذا الوحش. او بالاحرى هم ايقظوا الوحش الكامن في داخلي، الوحش الذي سعيت طول حياتي لاروضه. وحش لم اظن يوما انه سيعود اقوى مما كان، اكثر فتكا وغباوة وتمردا.

هو الصراع الآن بين عقلي وبين الشعور... تخبطت فيه، تألمت، أحسست بالخيبة من نفسي، من ذاتي.
اعتذر يا عقلي، فالشعور تغلب اليوم عليك. انا اليوم مقاتلة في صفوفهم، ساحمل السلاح الى جانبهم، سأقتل وأنهش من يقف في وجهي. سأسكر من دم فريستي وأنتشي من ألمها. لكن لا تلمني انا، لمهم هم الذين عرفوا كيف يحولونها معركة وجودية.

"اعطونا الطفولة"

ليس ما يؤلمني أكثر من رؤية ابنة خالي، وهي لم تتجاوز سنتها الرابعة، تقول، ببراءة الطفولة، وابتسامة المنتصر الظافر: "أنا خرجت الى الشرفة، هم يطلقون النار، لكنهم لم يصيبوني".

هذه الطفلة التي كان يفترض ان تكون في صفها، مع اصدقائها، تتعلم الكتابة والاغاني وتستمع الى قصص جميلة ينسجها خيال معلمتها، ها هي في المنزل، ككثيرين غيرها من التلامذة التي اغلقت الاحداث الاخيرة ابواب مدارسهم.

من حسن حظ هذه الطفلة – ومن حسن حظي انا - اننا لا نعيش في المناطق التي شهدت أعمال عنف. فبمَ كنت لاجيب لو سألتني من يطلق النار علينا؟ ولماذا؟ وماذا سيحدث؟ وهل سنموت؟...
من عادات الطفل ان يسأل كثيرا، اسئلة تتحول "مزعجة" حين يعجز الاهل عن الاجابة، خصوصا عندما تتعلق باسرار الوجود والحياة والموت.
لكن في حالتنا هذه، الاجابة أصعب. كيف تشرح لطفلة في الرابعة عن قتل الانسان للانسان، عن حروب الطوائف... كيف تشرح لها كيف يقتتلون باسم الله، وأنت طالما صورته لها بانه المحبة المطلقة؟ كيف تحكي لها عن ذاكرتنا المليئة بالكره والاحقاد... وعن ثقافة النسيان بالتراضي؟
ها هو جيل آخر ينشأ على صوت دوي المدافع ورشق الرصاص، على الاختباء في الحمامات وقضاء الليالي في الملاجئ... وها هو الحلم بقيامة الوطن على يد هذا الجيل يسقط كما تهاوت آمال كثيرة سابقا. ماذا يمكننا ان نفعل اليوم وغدا سوى رؤيتهم يكبرون ليعيدوا أخطاء من سبقوهم؟ ماذا نأمل غير أن يكونوا هم "خاتمة احزان" لبنان؟ وفي الانتظار، لا يسعنا الا ان نردد، مع الشاعر محمود درويش، بألم كبير، لكن بأمل أكبر: "تصبحون على وطن".

لوحة زيتية - يولاند نوفل



الحياة الليلية... مسيّسة أيضا!


الساعة تعدت منتصف الليل بقليل. الساهرون بدأوا بالوصول. يقف الـBouncer على الباب، يستقبلهم، ويطرد بعض الذين تأخروا فلم يحصلوا على حجز، ورغم ذلك اتوا قائلين: "منجرب حظنا".
السيارات الفخمة مركونة امام الملهى. وان لم تكن سيارتك فيراري او بورش من احدث الموديلات، فلا مكان قريب لها، وسيأخذها الـvalet الى حيث لا يمكن لاحد ان يراها. الجو هادئ في الداخل، الانوار ما تزال مضاءة، وصوت الموسيقى منخفض. الكل بانتظار محيي السهرة او ما يعرف بالـone man show، الذي لا تحلو من دونه السهرة - حتى لو لم يكن صوته جميلا- ولا يبدأ وصلته الا بأغاني الطرب لكبار الفنانين العرب، لينتقل بعدها الى اغان "اخفّ" لفنانين معاصرين، فيندفع الشباب والصبايا (وكلهن متشابهات من حيث شكل الانف والخدود والشفاه وقصة الشعر...)، ويقفون على كراسيهم او على الطاولات للرقص، لان معظم المرابع الليلية اللبنانية باتت تفتقر الى الـpiste، وهي مصممة على شكل pub اكثر من "نايت كلوب".
سهر وسياسة...
السياسة، الانقسامات الحادة والاجواء المشحونة ترافق اللبناني اينما حل، حتى في سهراته، فيمضي محيي السهرة نصف الوقت المخصص له في انشاد الاغاني الوطنية، وقد وصل الامر في بعض الاندية الليلية الى تمرير بعض الاغاني السياسية والحزبية الملتزمة، للترويج لفكر او انتماء صاحب الملهى الحزبي، او لاثارة الجماهير واضفاء المزيد من الحماس.
"شدوا الهمّة" لمارسيل خليفة، "سقط القناع" لماجدة الرومي، "غابت شمس الحق" لجوليا بطرس، اغان تعودنا سماعها في التظاهرات والاعتصامات، او الاحتفالات الحزبية، الا انها تحولت اليوم الى نبض السهرات اللبنانية، فنرى الناس يتحمسون لها، ويتمايلون على انغامها، دون أي تردد في اظهار انتمائهم الحزبي، من خلال حركات بايديهم تحولت الى اشارات للتعريف عن الحزب المقصود (الدلتا للقوات، علامة الصح للتيار، حرف الـPi للمردة...). فجأة، يلوح احد الراقصين على البار بعلم "اورانج" (مثلا)، فالاعلام اصبحت اكسسوارا ضروريا للسهرة. يرد عليه بعض القواتيون المستفزون بالهتاف للحكيم. الـone man show يشارك ايضا، فـ"يوزع" تحياته للجنرال والاستاذ والسيد، وسط فرحة محبي التيار ومناصري "الحزب الالهي" غير الملتزمين وصراخهم "الله، نصرالله، الضاحية كلها".محيي السهرة يدرك ان عليه ارضاء كل الساهرين، بكل انتماءاتهم، لذا تبدأ مجموعة من التحيات لا تنتهي لمعراب والمختارة والرابية وزغرتا والحكومة والشيخ سعد والسنيورة وكل اسماء البلدات والاشخاص التي تمر في ذهنه بينما هو يغني "يا رايح عالجنوب" و"زحلة يا دار السلام"...
...وشمبانيا
صوت الموسيقى ينخفض، واضواء المفرقعات تشع. "10 قناني شمبانيا للاستاذ فلان". لا تلبث المفرقعات تنطفئ حتى تفاجأ بالعاملين في الملهى يستعيدون الزجاجات العشر. انها "آخر موضة"، السعر اقل بكثير اذا لم تفتح الزجاجة، وهذا يناسب اللبناني الذي لا يسمح له "برستيجه" ان يمضي سهرة دون ان يلاحظه الآخرون ويردد اسمه على الـ"ميكرو" عشرات المرات، لكن مدخوله لا يسمح له دوما بعيش حياة الترف هذه. الاستفزازات المتبادلة، والحماسة الزائدة، غالبا ما تودي الى المشاكل، خصوصا اذا ما اقترنت بافراط في شرب الكحول، كأن تلك الاجواء لا تكفي لافساد سهرة من كان يرغب بقضاء ليله بعيدا عن السجالات وصراخ السياسيين على شاشات التلفزيون.
بحبك يا لبنان
ختام السهرة لا يمكن ان يكون الا بتعبير من الساهرين عن حبهم لوطنهم لبنان، وان احبوه كل على طريقته، او احبوا الـ"لبنان" الذي يريدون او يتصورون، فيشاركون الـone man show في اداء اغنية "بحبك يا لبنان" للسيدة فيروز، بجو كبير من التأثر، قبل ان ينهي المطرب وصلته الوطنية ويعود الى الاغاني الطربية، فيبدأ الحاضرون بالمغادرة، وضوء الصباح بدأ يلوح في الافق.

الصور من مجموعة الفنانة فاديا حداد "masques"

في ذكرى رحيل نزار قبّاني العاشرة... تحيّة لرجل أدرك معنى أن يحبّ الامرأة

عشر سنين مرت على وفاة احد اكثر الشعراء اثارة للجدل في علاقته بالامرأة ونظرته لها، في حياته وبعد مماته... عشر سنين على رحيل الشاعر الذي ثار على التقاليد الاجتماعية والقوالب الشعرية الجاهزة... نزار قباني الذي عرف كيف يحب الامرأة، وكيف يغازلها، وكيف يدللها، ما زال حتى اليوم متهما من قبل كثيرين من نقاد عالمنا العربي بالفسق والبغاء من جهة، وبالغطرسة الذكورية الشرقية من جهة أخرى.
لقد كان قباني من ابرز دعاة تحرير الامرأة العربية من السلطة الذكورية والاجتماعية، داعيا اياها للثورة على العادات والتقاليد، وعلى السلطة الذكورية: "ثوري، أحبك ان تثوري". سمى الاشياء باسمها، وتلفظ بتعبيرات لا يجرؤ الكثيرون حتى اليوم على استخدامها. توقف مطولا عند تفاصيل الجسد وفصل تضاريسه بمئات الصور الشعرية، وكان للنهد مكانة خاصة لديه: "تبارك مجد السفرجل/ والقصب السكري/ ومجد البياض، ومجد الحليب/ ومجد الرخام" او "نهداك وحشيّان... والمصباح مشدوه الفم / والضوء منعكس على مجرى الحليب المعتم / وأنا أمدّ يدي... وأسرق من حقول الأنجم / والحلمة الحمقاء... ترصدني بظفر مجرم / وتغطّ إصبعها وتغمسها بحبر من دمي... / يا صلبة النَهدين... يأبى الوهم أن تتوهمي/ نهداك أجمل لوحتين على جدار المرسم..."
ولكن هذا الوصف المتقن والجريء لجسد الامرأة دفع بالكثيرين الى اتهامه بانه لم يستطع ان يطفئ في داخله تلك النزعة "الشهريارية" لدى الرجل الشرقي، كما لم يستطع اخفاء تلك النظرة المتخلفة للامرأة على انها اداة جنسية فقط: "فصّلت من جسد النساء عباءة / وبنيت اهراما من الحلمات". وان اولئك الذين انتقدوه اضافوا ايضا انه اختصر الامرأة الى نهود وشفاه وملابس وحلى، ميزات جسدية فحسب تتجاهل قدرتها العقلية.
لكن لماذا التوقف فقط عند تلك الابيات، وتناسي القصائد الكثيرة التي يدين فيها الرجل الشرقي في عدم احترامه لزوجته، وعدم تقديره لها: "ونرجع آخر الليل / نمارس حقنا الزوجي كالثيران والخيل / نمارسه خلال دقائق خمسه / بلا شوق ... ولا ذوق / ولا ميل / نمارسه .. كآلات / تؤدي الفعل للفعل / ونرقد بعدها موتى / ونتركهن وسط النار / وسط الطين والوحل / قتيلات بلا قتل".
ولماذا نتجاهل قصيدة "المذبحة" التي يدين فيها الممارسات الوحشية بحق الامرأة: "كنا ثمانية معا / نتقاسم امرأة جميلة / كنا عليها كالقبيلة / كانت عصور الجاهلية كلها / تعوي بداخلنا / وأصوات القبيلة [...] كنا نعبر عن فحولتنا / فواخجل الفحولة [...] كنا ثمانية على امرأة / وكان الليل يرثينا / وترثينا الرجولة".
لا، ليس نزار قباني ذاك الفاسق المنحل الساعي الى اللهو والبغاء فقط كما صوره بعض نقادنا، فمن صور امرأته بنفس الروعة التي تكلم بها الشاعر عن زوجته بلقيس؟ ومن منهم أظهر حبا "واقعيا"، كما ظهر حب نزار قباني، حب بعيد عن الخداع والعذرية والمثالية...
اذا كان من غير الممكن ان ننكر بعض الغطرسة الرجولية الشرق – عربية في شعر قباني، الذي يقول: أنا في الحب صاحب معجزات / جئت للعاشقين بالآيات / كان أهل الغرام قبلي أميين / حتى تلقوا كلماتي"، وهو كان مدركا لتأثيره الكبير في نفس النساء: "اتحداهم جميعا / ان يخطوا لك مكتوب هوى / كمكاتيب غرامي / او يجيئوك على كثرتهم / بحروف كحروفي / وكلام ككلامي... اتحداهم جميعا / ان يكونوا قطرة صغرى ببحري"، غير انه من المجحف ان نختصر رؤيته للامرأة على انها اداة متعة فقط، فأن يتغزل الشاعر بجسد الامرأة كما فعل قباني، ويفصل أجزاء الجسد أيضا امر يصبح مقبولا متى استطعنا ان نكسر حاجز "الاخلاقيات"، التي هي اصلا غير ثابتة وتسقط او تتغير مع مرور الزمن، وهذا لا يعني أبدا ان الشاعر لا يقدر ميزات اخرى فيه.
الامرأة العربية بعد نزار قباني لا تشبه نفسها قبله. ثورة لا بد ان تكون حدثت في كل امرأة قرأت قصائد نزار، وتعمقت في غزله، ثورة على القمع الداخلي المفروض عليها، وثورة على كل تلك المفاهيم البالية الي ترسخت فيها على مر الزمن، فاستسلمت لفكرة ان جسدها مصدر شر واثارة غرائز حيوانية، وأضحت تخجل به وتتعامل معه على انه اعاقة او نقص، وكرهته... حتى الاقتناع بوجوب اخفائه او "تستيره"!
الشاعر دعاها صراحة الى الثورة. لقد اعاد لها ثقتها بنفسها، بجمالها، بجسدها... صورها فخورة مدللة... حضها على الاعتناء بجسمها، على احترامه، على حبه، على ان تقدم نفسها دوما بابهى حلة. اكد حقها باللعب، باللهو، بالاستمتاع... حقها في اللذة، في ان تشعر بانها مرغوبة، محبوبة، مثيرة، جميلة دوما. ولذلك، فالنساء احببنه، ولذلك كسرن التقاليد في دفنه، ورافقن جثمانه الى المسجد خلافا لما هو سائد في دمشق.
حبذا لو كل امرأة عربية تقرأ اليوم هذا الغزل، وترى نفسها في قلب تلك الاشعار... حبذا لو تستطيع ان تكون كل امرأة ليوم واحد فقط حبيبة نزار...

المنحوتة للفنانة كلوتيلد أنكاراني - حديد - من معرض Réservé aux dames في غاليري أليس مغبغب

اللوحتان للفنانة اللبنانية الهام مكارم،

الاولى بعنوان nude - تقنية mixed media - oil &metal on canvas - عام 2004

الثانية بعنوان extrovert - تقنية mixed media - oil &metal on canvas - عام 2004

في يوم دفني...

أخاف من الموت. أحسد أصدقائي الذين لا يخافون، اولئك الذين يؤمنون بالجنة وبأنّهم سيكونون من أهلها. أنا لا أنكر وجودها. أنا فقط لا أعرف اذا هي فعلا موجودة أم لا. لو تأكدت لما خفت من الموت. بل كنت لأنتظره. لا أذكر متى توقفت عن الايمان بالجنّة وجهنّم. ربما عندما أصبحت الجهنّم التي يصورونها أجمل من الجنّة بالنسبة لي. وقد كان ذلك منذ زمن طويل.
أخاف من الموت بكل أشكاله. أخاف أن أموت، لكني ارتعب من فكرة أن يموت الاشخاص الذين أحبّهم. هل تعودت على فكرة الموت؟ لا أدري، قد أكون فعلت، لكني لم استطع ان اتوقف عن التفكير فيه.
أنا، فتاة في العشرين من العمر، قتلت نفسي مئات المرات. في كلّ مرة، أرسم مشاهد الدفن. لا يهمني كيف متّ، المهم انني هناك، ممدة بالفستان الابيض… جميل، فستان عرس حقيقي لا فستان دفن. كثيرون يلتفّون حولي. الكلّ يبكي… هم فعلا أحبوني. المجتمعون حولي على الاقلّ.
هنا أختي لم تتوقف عن مناداتي والبكاء. أنا أسمعها، أمسك بيدها، أريد أن أواسيها… لا أستطيع. هل ما زالت غاضبة لاني لم أرتب خزانتي؟ تبدو ضعيفة هنا، مكسورة الخاطر… مفجوعة حتى. كانت دوما تبدو
صلبة. يبدو انني كنت أكثر صلابة منها، ولو لم يكن ذلك جليّا. ماذا ستفعلين بتختي؟ هل ستنامين فيه لبضعة أيّام؟ ستنامين وحدك من الآن فصاعدا. اعرف انك ستشتاقين إليّ. كثيرا. لا تبدين جميلة في الاسود. لطالما قلت لك أن تلبسي الاحمر يوم مماتي. هل عليك فعلا ان تتقيدي بهذه التقاليد البالية؟
في الجهة المقابلة، يقف والدي، بعينين دامعتين لم أعتدهما، ليتقبل التعازي. هذه طفلتك الصغيرة قد رحلت، هي التي دللتها وقضيت الليالي الطوال بجانبها ترحل دون رجعة. كم تتمنى لو تستطيع أن تجلس قربها الآن، ان تقبلها على جبهتها كما فعلت دوما، ان تقوم بتلك الحركة التي تلمس فيها انفها، حركة طالما أضحكتها. تريد أن تودعها، ان تنفرد بها دقائق قليلة، ان تشرح لها كم تحبها… أشعر بالغصة في قلبك… يداك ترتجفان. لا يا أبي، لا تنهر أمامهم. لا أحبّ أن أراك تضعف أمامهم.
حضر كثير من أصدقائي. بعضهم لم يسمع بالخبر حتى الآن. لا ألومهم، فأنا لن أحضر دفنهم. لا أريدهم ان يبكوا. ما نفع البكاء؟ ولكنهم يبكون فتختلط دموعهم بدموعي. بعضهم لم يكن يحبني. لماذا يتظاهرون بالحزن والاسى؟ أنا اوصيتكم منذ زمن ان تطردوا الكاذبين المنافقين المتباكيين. لماذا لا تحترم ارادة الانسان بعد مماته؟
للمرة الثانية، تبكين حفيدة يا جدتي. أنت قد ظلمت فعلا. لا أدري لماذا النحس يرافقك اينما كنت. صحتك ضعيفة، لا يجب أن تحزني. ماذا أقول لك؟ الذنب ذنبي اليوم، فانا اخترت ان اموت واجعلك شاهدة على مأتمي. لم تزوجيني يا جدتي “على إيّامك” كما كنت تقولين. لقد دفنتيني “على إيّامك”…
هو عرسٌ أكثر مما هو دفن. ابدو جميلة في فستان العرس. حتى أنهم وضعوا بعضا من الحمرة على شفتيّ…
أخاف من اللحظة التي سيقفلون فيها التابوت… سيعلو الصراخ، سينفعلون، سيرونني أغادر على وقع الزغاريد، سيرقصون بالتابوت الابيض… قد يرافقني الطبل أيضا…
لا أدري لماذا اهتمّ لهذه الدرجة بدفني، لمَ أريد أن يكون كل شيء منظما وجميلا… أليس الاهمّ اني سأكون قد متّ؟…


اللوحة للفنانة كلوتيلد أنكاراني - من معرض "réservé aux dames" في غاليري أليس مغبغب - mixed media on canvas

الرسم لأمل كعوش من معرض "ميرون 1948" في مسرح دوار الشمس ضمن فعاليات "مهرجان الربيع 2008) - عنوانه: الموت - http://meiroun.blogspot.com/

لا تتدخلي في أحلامي!

صباح الخير يا أمّي.
للمرّة الاولى، أصبحك، منذ ثلاثة عشر عاما. لكن الذنب ليس ذنبي. فأنت لم تزوريني مذاك. ولا مرة. حتى عندما كنت بأمس الحاجة اليك، لم تأتي. عندما كنت أناديك، اشتاق لان أسمع صوتك العذب، لأن أرى وجهك البهي، لملمس يدك الناعم يمسح الدموع عن وجهي محاولا ان يراضيني، لقصة صغيرة أنام دائما قبل أن تصل الى نهايتها... لم تأتي.
تعوّد وجهي ملمس يدي أبي الخشنتين، لكن، لا تجزعي، فهما حنونين. قد أجرؤ أن اقول أحنّ من يديك. لكنّ أبي لم يعد يخبرني قصصا. لم أكن أطلبها أصلا، ولم تعد تنفعني لانام. كان عليه أن يبتكر، كل ليلة، طريقة جديدا، علني أتوقف عن البكاء وطلب رؤيتك.
أساليبه لم تفلح الا نادرا... لكنّ الانسان يا أمّي ينسى. وربّما لهذا السبب سمي كذلك...
لم أعد أذكرك الا صورة معلقة في غرفتي وعلى حائط غرفة جدتي. لم تعودي ذكرى حتى. مجرد صورة معلقة اشيح بنظري عنها ما استطعت... أتحاشاها. ربما لاني اشعر بالذنب: ذنب أن أكون نسيتك!
نعم، نسيتك... حتى الصوت والقصص وذاك الملمس الناعم، لم اعد اذكرهم، وانما اذكر نفسي أطالب بهم باكية. هل أحبّك؟ وهل يحبّ الانسان صورة؟...
ألا تعتقدين من الوقاحة أن تزوريني في الحلم هذه الليلة؟ لا أنكر أنك حركت فيّ بداية بعض المشاعر في هذا الترائي المفاجئ... لكنك حتى لم تتكلفي عناء الظهور، وانما كلمتيني عبر الهاتف! عاتبتك في الحلم، قلت أتعودين الآن هكذا؟ أين كنت في الثلاث عشرة سنة المنصرمة؟ وأعود الآن واسألك لماذا تتدخلين في احلامي، وتقلقيني في ساعات راحتي؟
أظنك الآن تقولين "بأيّ قسوة اصبحت يا ابنتي الصغيرة؟"...
لا يا أمي، هذه ليست قسوة، هذه هي الحقيقة... أقولها بوجهك للمرة الاولى... وهي ربما المرة الاولى التي اعترف بها. لطالما اردتك ذكرى جميلة! الا انك لا تعرفين ان تكوني سوى صورة معلقة او ذكرى مؤلمة...

وانفجرت ستّ الدنيا!..

المشهد تكرر... مقنعون ملثمون يحرقون الاطارات، يضرمون النار في مكبات النفايات، يقطعون الطرقات... اكياس التراب ومكعبات الاسمنت ترتفع سواتر عند خطوط التماس الجديدة... وها هم يتقاتلون من جديد... وها هي شوارع العاصمة تشهد مرة أخرى تحارب ابنائها. هذه الـ"بيروت" التي لم تعد تجد ما يبلسم لها جروحها، وما يوقف نزيفها، وقفت بكماء تنظر بأسى الى حقد ابنائها، الى كرههم لبعضهم ولها... غضبت أمام هذا الاقتتال العبثي، اقتتال ابناء الدين الواحد وباسم الدين... لم تقو على رؤية قلبها يحترق... ملّت الرصاص والطلقات ودوي القذائف والانفجارات... فانفجرت! دوى الرعد في سمائها، ولمعت شرارة الغضب... اختلط أسى العاصمة بجهل ابنائها. ذرفت سماؤها الدموع مطولا، لكنها لم تستطع ان تطفئ نار الحقد المشتعل.
استسلمت... استسلمت "ستّ الدنيا" امام جهل ابنائها، امام كرههم وتعصبهم، امام مشاهد الدمار والخراب...
السلاح تغلب على "بيروت الثقافة"...
العصبية تغلبت على "بيروت الانفتاح"...
الرجعية تغلبت على "بيروت التحرر"...
جففي دموعك يا بيروت الحبيبة الغالية... فحرام ان تبكي أبناء لن يبكوك يوما!

(الصورة من معرض "vous écrire" لسيرين فتّوح في المركز الثقافي الفرنسي)